فصل: مسألة غزوة بني لحيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة متى وقعت غزوة ذي أمر:

وفي السنة الثالثة كانت غزوة ذي أمر في صفر، غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا يريد غطفان، فأقام عَلَيْهِ السَّلَامُ بنجد صفرا كله، ثم انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بحران في ربيع الأول، ذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بالمدينة ربيعا الأول، ثم غزا قريشا فبلغ بحران معدنا بالحجاز فأقام هنالك ربيعا الآخر وجمادى الأولى، ثم انصرف إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بني قنينقاع، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لما قدم المدينة وادعته اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا، وألحق كل قوم بلحقائهم وشرط عليهم فيما اشترط ألا يظاهروا عليه أحدا، فنقض بنو قنينقاع من اليهود عهده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ورغب في حقن دمائهم وألح على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فأسعفه فيهم، وحقن دماءهم، وهم قوم عبد الله بن سلام، وكان حصاره لهم خمس عشرة ليلة.
وفيها كان البعث إلى كعب بن الأشرف، وذلك أنه لما اتصل به قتل صناديد قريش ببدر، قال: بطن الأرض خير من ظاهرها، ونهض إلى مكة فجعل يرثي كفار قريش ويحرض على قتال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وكان شاعرا، ثم انصرف إلى موضعه، فلم يزل يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهجو والدعاء إلى خلافه ويسب المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لكعب بن الأشرف، فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين؟، فقال له محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله إن شاء الله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك»، فكان من خروجه إليه وتلطفه في قتله بما أذن له فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القول ما هو مذكور في السير.
وفيها كانت غزوة أحد، وذلك أن كفار قريش غزته في شوال منها، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن، وقصدوا المدينة فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، وأشار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه ألا يخرجوا إليهم، وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن قربوا منهم قوتلوا على أفواه الأزقة، ووافق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الرأي عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبى كبراء الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله منهم من شاء بالشهادة، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزيمتهم دخل بيته فلبس لأمته وخرج، وذلك يوم الجمعة، وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج، وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل»، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ألف من أصحابه نحو أحد، وانصرف عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس مغاضبا إذ خولف رأيه، حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الخيل، فجعل ظهره إلى أحد وبنى الناس عن القتال حتى يأمرهم، وتعبأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقتال وهو في سبعمائة، فيهم خمسون فارسا، وكان رماة المسلمين خمسين، وقيل: إن المشركين كانوا في ثلاثة آلاف فيهم مائتا فارس، وظاهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بين درعين، وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزمت قريش واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رتبهم خلف الجيش لئلا يأتي العدو من ورائهم، فذكرهم أميرهم أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياهم ألا يزولوا فلم يلتفتوا إلى قوله، وقالوا: قد انهزموا، ثم كر المشركون فتولى المسلمون وثبت منهم من أكرمه الله بالشهادة، وجرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة رأسه وأكبت الحجارة عليه حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عَلَيْهِ السَّلَامُ على جنبه فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام ونشبت حلقتان من درع المغفر في وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح بثنيتيه فسقطتا فكان أهتم يزينه هتمه، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جازى به نبيا من أنبيائه عن صبره، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينه على وجنته فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده وغمزها، فكانت أحسن عينيه وأصحهما، وأدرك أبي بن خلف يومئذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتناول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربة من الحارث ابن الصمة ثم طعنه في عنقه فكر منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو بصق علي لقتلني، أليس قد قال: بل أنا أقتله، وقد كان أوعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقتل بمكة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فمات عدو الله من ضربة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له سوق، وكان خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، والوقيعة يوم السبت للنصف منه، وكان على ميمنته علي بن أبي طالب، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو، وعلى الرجالة الزبير بن العوام، ويقال المقداد، وعلى الرماة عبيد الله بن جبير ومعه سعد بن مالك. وسائر ما جرى في هذه الغزوة ومن استشهد فيها من المهاجرين والأنصار، وقتل فيها من الكفار- قد ذكره أصحاب السير.
وفي اليوم الثاني من هذه الوقعة كانت غزوة حمراء الأسود، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر باتباع العدو، فخرج بالناس إلى موضع يدعى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة، فأقام به يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة، ولما بلغ العدو خروجه في اتباعهم فت ذلك في أعضادهم وقد كانوا هموا بالرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه عن ذلك وتمادوا إلى مكة.
وفي رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة.
وفي شعبان منها تزوج حفصة.
وفيها تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وفيها ولد الحسن بن علي بن أبي طالب.

.مسألة أحداث آخر السنة الثالثة من هجرة النبي عليه السلام:

وفي السنة الرابعة في صفر منها وهو آخر السنة الثالثة من هجرة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفر من عضل والقارة، فذكروا له أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين، فبعث معهم ستة رجال: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن بكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن الأقلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة بن عبيد، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع وهو بالهذيل بناحية الحجاز استصرخوا عليهم هذيلا وغدروا بهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا والرجال قد غشوهم وبأيديهم السيوف، فأخذوا سيوفهم ليقاتلوهم فأمنوهم، فأبى مرثد بن أبي مرثد وعاصم بن ثابت وخالد بن البكير أن يقبلوا منهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وكان عاصم منهم قد قتل يوم أحد فتيين أخوين، من بني عبد الدار فنذرت أمهما سلافة بنت سعد بن شهيد إن الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلامة، فأرسل الله عز وجل دونه الدبر فحمته عنهم، فقالوا: إذا كان الليل فسيذهب الدبر، فبعث الله في الليل سيلا لم ير مثله فذهب به فلم يقدروا عليه، وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فألقوا بأيديهم فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة، فلما ساروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه وتأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فباعوهما بمكة فصلب خبيب رَحِمَهُ اللَّهُ بالتنعيم، وهو القائل حين قدم ليصلب:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ** على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع

في أبيات له، وهو أول من سن الركعتين عند القتل.
وقال له أبو سفيان بن حرب: أيسرك يا خبيب أن محمدا عندنا بمكة نضرب عنقه وأنك سالم في أهلك؟... والله ما يسرني أني في أهلي وأن تصيب محمدا شوكة تؤذيه. وابتاع صفوان بن أمية زيد بن الدثنة فقتله بأبيه.
وفي هذه السنة في شهر صفر منها أيضا كان بعث بئر معونة، وكان سببه أن أبا براء الكلابي من بني كلاب، ويعرف بملاعب الأسنة واسمه «عامر بن مالك قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، قال عَلَيْهِ السَّلَامُ: إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنذر بن عمرو الساعدي» وهو الذي يعرف بالمعنق ليموت لقب غلب عليه، والأكثرون يقولون أعنق ليموت في أربعين رجلا، وقيل: في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم شباب من الأنصار كانوا يسمون القراء، كانوا يتنحون ناحية من المدينة يحسب أهلوهم أنهم في المسجد، ويحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم، فيصلون من الليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب واعتذبوا الماء فوضعوه على أبواب حجر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وأمر على جميعهم المنذر بن عمرو، فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة من أرض بني عامر وحرة بني سليم ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدو الله عامر ابن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لا نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوا حتى قتلوا من آخرهم إلا كعب بن زيد منهم، فإنهم تركوه وبه رمق فأرتت من بين القتلى وعاش حتى قتل في الخندق شهيدا وكان في سرحهم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار، فلما رجعا لينظرا حال قومهم وقد شعروا بأمرهم إذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو ابن أمية: ما ترى؟ فقال: أرى أن تلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتخبره الخبر، فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب عن موضع قتل فيه المنذر بن عمرو، فقاتل حتى قتل، وأسر عمرو بن أمية فجز عامر بن الطفيل ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قتل في طريقه رجلين كانا نزلا معه في ظل من بني عامر أو من بني سليم، وقد كان لهما من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عهد وجوار لم يعلم به، وظن أنه قد أصاب منهما ثارة من بني عامر فيما أصابوه من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما أخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لقد قتلت رجلين كان لهما مني جوار، لأدينهما»، هذا عمل أبي براء، وقد كنت لهذا كارها، وبلغ أبا براء ما فعل عامر ابن الطفيل، فشق عليه إخفاره إياه.
ولحسان بن ثابت في ذلك شعر يحرض فيه بني أبي براء على عامر بن الطفيل.
وفيها في شهر ربيع الأول منها كانت غزوة بني النضير، غزاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتحصنوا منه، فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع النخل وإحراقها فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام.
وممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فدانت لهم خيبر، وقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموالهم بين المهاجرين إلا أنه أعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف لفقرهما، والحارث بن الصمة، وقد مضى في رسم نذر سنة، المعنى الذي من أجله خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، ونزلت سورة الحشر في بني النضير قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] إلى قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17] فكان إجلاء بني النضير أول الحشر في الدنيا إلى الشام، ولذلك قيل للشام أرض المحشر، وفي الحديث: «تجيء نار من قعر عدن تحشر الناس إلى الشام تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا».
وكان سبب غزوة بني النضير أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال لعمرو بن أمية: لقد قتلت قتيلين لأدينهما خرج بنفسه إلى بني النضير مستعينا بهم في ذلك، وكانت بينه وبينهم موادعة، فتوامروا على قتله، وهموا أن يلقوا عليه صخرة في مكانه الذي كان فيه جالسا عندهم، فأعلمه الله بذلك، فخرج عنهم ولم يشعر أحد ممن معه، ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وراث عليهم خبره أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقد لقيته وقد دخل أزقة المدينة، فقام أصحابه ولحقوا به، فأخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أوحى الله إليه مما أرادت اليهود فعله، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالتهيؤ لقتالهم وحربهم، وخرج إليهم.
وفيها كانت غزوة ذات الرقاع، في جمادى الأولى منها خرج لخمس خلون من الشهر يريد بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان حتى نزل نخلة، فلقي بها جمعا من غطفان، وتقارب الناس ولم يكن بينهم قتال، وصلى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الخوف، ثم انصرف، وإنما سميت ذات الرقاع؛ لأن أقدامهم نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها، وقيل: ذات الرفاع شجرة بذلك الموضع تدعى بذات الرقاع، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حفرة وصفرة وسواد، فسموا غزوتهم ذات الرقاع لذلك، فالله أعلم، وبه التوفيق.
وفيها كانت غزوة بدر الثانية في شعبان منها، وذلك أن أبا سفيان كان نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: موعدنا معكم بدر في العام المقبل، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يجيبه بنعم، فخرج للميعاد المذكور، ونهض حتى أتى بدرا، فأقام هنالك ثماني ليال ينتظر أبا سفيان بن حرب، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان، ثم رجع واعتذر هو وأصحابه بأن العام كان عام جدب.
وفي هذه السنة بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق.

.مسألة متى وقعت غزوة دومة الجندل:

وفي السنة الخامسة كانت غزوة دومة الجندل، في ربيع الأول منها خرج إلى دومة الجندل، وانصرف من طريقه قبل أن يبلغ إليها، ولم يلق حربا.
وفي شوال منها كانت غزوة الخندق وكان سببها أن اليهود اجتمعوا وألبوا وخرجوا إلى مكة فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إليهم، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون وهم الذين حزبوا الأحزاب إلى غطفان، فدعوهم إلى ذلك فأجابوهم، فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن في فزارة والحارث بن عوف المري في بني مرة، ومسعود بن رخيلة الأشجعي في أشجع، فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم ضرب الخندق على المدينة، فأقبلت قريش ومن معها من هذه القبائل في نحو عشرة آلاف، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف، وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين، فأقام بضعا وعشرين يوما، فلم يكن بينهم حرب إلا رمي بالنبل، وخرج عمرو بن عبد ود في أصحاب له، فدعا إلى المبارزة، فخرج علي فقتله، وهرب أصحابه واقتحموا الثغرة التي كانوا أجازوا الخندق فيها فرجعوا، وقتل من المسلمين يوم الخندق ستة نفر، منهم سعد بن معاذ أصابه سهم فمات بعد قريظة، وانصرفت الأحزاب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكفى الله المؤمنين القتال.
وكان سبب ذلك أن نعيم بن مسعود قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم وقال: مرني بما شئت وما عسى أن تفعل وأنت رجل واحد، فلو ذهبت فخذلت بين القوم فإن الحرب خدعة، فذهب فخذل بين قريش وبين بني قريظة، فاختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا شديدة عاصفة في ليال باردة لم يبق لهم بناء إلا قلبته، ولا قدر إلا كفأته، وكان في حفر الخندق آيات بينات، وعلامات النبوءة مذكورة عند أهل السير والآثار.
وفي هذه السنة كانت غزوة بني قريظة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أصبح وقد ذهبت الأحزاب ورجع إلى المدينة ووضع الناس سلاحهم عند صلاة الظهر أتاه جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة. فقال لهم: إن كنتم وضعتم سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم ومزلزل بهم، فنادى منادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان سامعا مطيعا فلا يصل العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن يقتل الرجال وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري، فقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجالهم: حيي بن أخطب وكعب بن أسد ستمائة أو سبعمائة، استنزلهم ثم قتلهم بالمدينة، واصطفى من نسائهم عمرة بنت قحافة، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة وهي نباتة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتله. وروي عن عائشة أنها قالت: إن كانت لعندي تضحك وتحدث ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتل رجالهم؛ إذ هتف هاتف: أين فلانة؟ قالت: أنا والله مقتولة، قلت: ويلك لم؟ قالت: لحدث أحدثته، فانطلق بها فضربت عنقها.
ولما انقضى شأن الخندق وقريظة تذاكرت الخزرج من في العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كابن الأشرف الذي قتله محمد بن مسلمة، حتى لا تنفرد الأوس دوننا بمثل تلك المنقبة، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتله، فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنس، ومسعود بن سنان، وأبو قتادة بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم، وطرقوه في بيته بخيبر ليلا فقتلوه، وقدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر، فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: أفلح وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «قال: أقتلتموه؟ قالوا: نعم، قال: ناولوني السيف، فسله فقال: أجل، هذا طعامه في ذباب السيف».
وروي أنهم تداعوا في قتله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هاتوا أسيافكم»، فأروه إياها، فقال عَلَيْهِ السَّلَامُ عن سيف عند عبد الله بن أنس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام»، وقد كانوا لما تعاوروه بأسيافهم صاحت امرأته، فخرج أهل الآطام وأوقدوا النيران، فخرجوا وهم لا يوقنون بموته، فرجع أحدهم فدخل بين الناس، فسمع امرأته تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم قلت: أنى بابن عتيك بهذه البلاد، قال: ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت: فاض وإله يهود.

.مسألة غزوة بني لحيان:

وفي السنة السادسة كانت غزوة بني لحيان، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر جمادى الأولى منها إلى بني لحيان مطالبا بثأر عاصم ابن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فتمادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مائتي راكب حتى نزل عسفان وبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا ورجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قافلا إلى المدينة.
وفي هذه الغزوة قالت الأنصار: إن المدينة خالية منا وقد بعدنا عنها، ولا نأمن عدونا أن يخالفنا إليها فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن على أنقاب المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر الله تعالى عز وجل.
وفي هذه السنة كانت غزوة ذي قرد، ولما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة بني لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليالي، وأغار على سرح المدينة عيينة بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، فاقتسموا لقاحا كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالغابة وناقته العضبا، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري وحملوا المرأة واللقاح، وكان أول من أنذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا على ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار فصاح وأنذر المسلمين ثم نهض في آثارهم فأبلى بلاء عظيما ورماهم بالنبل حتى استنقذ أكثر ما في أيديهم، ووقعت الصحية بالمدينة، وجاء الناس إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وأول من جاء منهم المقداد بن الأسود، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فرس لأبي طلحة، وقال: إن وجدته لبحرا وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماء يقال له ذو قرد، فأقام على ذلك الماء يوما وليلة، ولما قام القوم يوما وليلة قامت امرأة الغفاري المقتول، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت العضبا، فإذا ناقة ذلول، فركبتها ونذرت إن أنجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت ناقة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فأخبر بذلك، فأرسل إليها فجيء بها والمرأة، فقالت: يا رسول الله، نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بئس ما جزيتها، لا وفاء في نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم»، وأخذ ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي شعبان من هذه السنة غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني المصطلق، وأغار عليهم وهم غازون على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد بما يلي الساحل، فقتل من قتل وسبى النساء والذرية، وقد قيل: إنهم جمعوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له المريسيع، فاقتتلوا فهزمهم الله، والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم غارون.
ومن ذلك السبي كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فأدى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابتها وأعتقها وتزوجها، قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، ما هو إلا أن علم المسلمون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها وأعتقوا كل ما في أيديهم من سبي المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم سائر بني المصطلق.
وفي هذه الغزاة قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وَبَلَّغَ زيدُ بن أرقم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالة عبد الله بن أبي ابن سلول، فأنكرها ابن أبي، فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد بن أرقم: «وفت أذنك يا غلام» وأخذ بأذنه، وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي من فعل أبيه، وأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أنت والله العزيز، وهو الذليل، أو قال: أنت الأعز وهو الأذل وإن شئت لتخرجنه من المدينة.
وقال سعد بن عبادة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا رجل يحمله حسده على النفاق فدعه إلى عمله، فقد كاد قومه على أن يتوجوه بالخرز قبل قدومك المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنك نزعت ذلك منه، وقد خاب وخسر إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان فكله إلى ربه.
وقال عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله بلغني أنك تريد من قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك فمرني بقتله فوالله لئن أمرتني بقتله لأقتلنه، وإني أخشى إن قتله غيري أن لا أصبر عن طلب فأقتل مسلما فأدخل النار وقد علمت الأنصار أني أبر أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرا، ودعا له، وقال: «بر أباك ولا يرى منك إلا خيرا».
وفي هذه الغزاة، قال أهل الإفك في عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، ونزل القرآن ببراءتها.
وقد قيل في هذه الغزاة: إنها كانت قبل الخندق وقريظة، والصواب أنها كانت بعدها، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأكثر من عامين- الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه ففزع منهم وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة وهموا بقتله، فتكلم المسلمون في غزوهم، فبينا هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم عنهم دون أن يأخذ صدقاتهم وأنهم إنما خرجوا إليه مكرمين، فأكذبه الوليد بن عقبة، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] يعني الوليد بن عقبة، {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6].
وفي هذا العام كانت غزوة الحديبية، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي القعدة منها معتمرا واستنفر الأعراب الذين حول المدينة، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب وجميعهم نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي. وأحرم بعمرة ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا خرج جميعهم صادين له عن المسجد الحرام ودخول مكة، وأنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، فورد الخبر بذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعسفان فسلك طريقا يخرج وراء ظهورهم فخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، ولما وصل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية بركت ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الناس: خلأت، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما خلأت ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني اليوم قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها»، ونزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هناك، وجرت السفراء بينه وبين كفار قريش، وطال التراجع بينهم إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عامه ذلك، فإذا كان من العام المقبل أتى معتمرا، ودخل مكة بلا سلاح إلا السيوف في قرابها، فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل الناس فيها ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما رد إليهم، ومن جاء من المسلمين إليهم مرتدا لم يرد إليهم، فشق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه»، فأنس الناس إلى قوله واطمأنت له نفوسهم وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في كتاب الصلح بذلك محمد رسول الله، وقال: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، وقد كان علي بن أبي طالب كاتبه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «امحه، فقال: والله لا أمحو اسمك، فقال: أرني إياه، فأراه فمحاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب محمد بن عبد الله» وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بعث عثمان بن عفان قبل الصلح إلى مكة رسولا، فأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين إلى المبايعة على قتال أهل مكة، قيل: على الموت، وقيل: على أن لا يفروا، وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة التي قال الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، إلى قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] يريد فتح مكة {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] يريد ما غنموا بخيبر، وضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيمينه على شماله لعثمان، فهو من أهل بيعة الرضوان، وكان قد جاء من قريش نحو السبعين أو الثمانين للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، والسفراء يمشون بينهم في الصلح، ففطن لهم المسلمين فخرجوا إليهم فأسروهم، وجاءوا بهم إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فأطلقهم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فهم الذين يسمون العتقاء، وإليهم ينسب العتقيون.
ولما كمل الصلح بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، فنحروا وحلقوا، وقد كانوا توقفوا عن النحر والحلق إذ أمرهم به، فلما رأوه قد نحر وحلق تتابعوا في ذلك وتسابقوا إليه، ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة.
ولما رجع إلى المدينة رد بالشرط من جاء من الرجال مسلما، وأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلى آخر السورة، فلم يرد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جاء من النساء مسلمات، وقد بينا في أول سماع ابن القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب هذا المعنى بيانا شافيا، وبالله تعالى التوفيق.